فقد نُقِلَ إليَّ كثيرٌ مِن مضامين البرنامج التّمثيلي المسمَّى: "العذراء والمسيح"، الذي يُعرض في ليالي هذا الشّهر الكريم -رمضان-. وقد تضمّن البرنامج: تمثيلَ قصة مريم وابنها -عليهما السّلام- في القرآن، مِن: ولادتها، وعبادتها، وكفالتها، وحملها بالمسيح وولادتها له.
وهذه سلسلة جديدة مِن تمثيل قصص القرآن، الذي سمعتُ بداياته منذ أربعين سنة مِن بعض إذاعات البلاد الإسلاميّة، وأظنّها المحليّة، وذلك بتمثيل قصّة "آدم وإبليس" صوتيًا، وتمثيل قصص بعض الأنبياء مع أممهم، والعذاب الذي نزلَ بهم.
ولاريبَ أنّ تمثيل قصص القرآن: مِن اتخاذ آيات الله لهوًا ولعبًا، ثمّ إنّ هذا المنهج لم يزل يتوسّع ويتطوّر في وسائل الإعلام، ولاسيما بعد انتشار التلفزة والتّمثيل المصوّر.
وكان الذين يعتنون بإنتاج هذه البرامج والمسلسلات في الماضي هم بعضُ جهلة المسلمين وفَسَقتهم، أو مَن ليس مِن المسلمين أصلًا، حتى آلَ الأمرُ أخيرًا إلى أن يُخصّ رمضان كلّ عام ببرنامج تمثيليّ، عليه مسحة دينيّة، أو مجرّدًا عن ذلك.
دع عنك ما خُصص مِن المسلسلات للسّخرية بالمحافظين على الأحكام والآداب الشّرعية والآمرين بالمعروف، كالمسلسل المحلي البائد، الذي كان المفتونون يرتقبونه كلّ رمضان، حتى مَلّوه، فهذا لون آخر.
هذا؛ ومِن الجديد في تمثيل قصص القرآن: ما سمّي برنامج "العذراء والمسيح"، ويتميّز نوع التّمثيل فيه بالتّضليل والتّظليل، حسب ما ذُكر لي مِن مشاهده، ويُلاحظ أنّه استُعمل في التّعبير عن المسيح وأمّه -عليه السّلام- الألفاظ الجارية في عرف النّصارى؛ كالعذراء، والسّيد المسيح، والسّيدة مريم، وليس فيه مِن الألفاظ الإسلاميّة إلا الشّواهد القرآنيّة المناسبة للمشاهد الممثّلة المصوّرة لفقرات القصة.
إنّ تمثيل قصص القرآن هو مِن مظاهر الإسلام العصريّ المتطوّر، الذي يُستغَلُّ فيه خلافُ العلماء في الجرأة على التّساهل بالمحرّمات والمشتبهات، ويُؤخَذُ فيه بالتّرخصات الفقهيّة، ويُلتمَسُ لذلك أنواعُ التّأويلات.
ونقولُ لأصحاب مسلسل "العذراء والمسيح": هل ستمثّلون لنا ما في القرآن مِن أخبار اليوم الآخر؛ مِن تشقّق القبور، وخروج النّاس كأنّهم جراد أو فراش؟! وهل تمثّلون الموازين وما يثقلُ ومايخفّ؟! وتمثلون نشر الصّحف ومَن يأخذُ بيمنه ومَن يأخذُ بشماله؟! وهل تمثّلون سوْقَ الكافرين زمرًا إلى النّار، والمتّقين زمرًا إلى الجنة؟! وهل ستمثلون العرش، والملائكة، ومالهم مِن الأجنحة؟!
ونقول: متى فعلتم ذلك وطردتم مذهبكم فقد جعلتم القرآن كلّه -قصصه وأخباره- مادة لبرامج التّمثيل في المسارح والقنوات! وهذا غاية الامتهان والاستخفاف بكتاب الله العظيم.
إنّ مِن المؤسف أنّ المقدِّمين لهذا المسلسل هم مِن المنتسبين إلى العلم والدعوة، أي "مِن اللي عليهم الشّرهة" -كما يقال-، هداهم الله وردّهم إلى صوابهم.
وإن كانَ الغرضُ مِن تمثيل قصة مريم وابنها -عليهما السّلام- دعوة النّصارى: فطريقها ما سلكهُ الصّحابةُ -رضي الله عنهم- والتّابعون لهم بإحسان، وهو: إسماع النّصارى القرآن، وتفسيره لِمَن احتاج منهم لذلك، فهذا جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- قرأ على "النّجاشي" سورة مريم، فأقرّ "النّجاشي" بما جاء في القرآن مِن شأن عيسى -عليه السّلام-، وأشار إلى أنّ ما جاء في القرآن مِن وصف عيسى مطابقٌ لعقيدته في المسيح -عليه السلام- وأنّه لا يزيد عن صفته في القرآن شيئا: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(مريم:34)
وبعد: فإنَّا لهذا البرنامج -العذراء والمسيح- منكرون، ولهذا أرى تحريم هذا البرنامج، وتحريم مشاهدته، والله أعلم. حرر في: 1435/9/26 هـ
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك