الرئيسية/المقالات/لا أجد عذرا لخطئكم العظيم إلا ضعف قواكم الفكرية

لا أجد عذرا لخطئكم العظيم إلا ضعف قواكم الفكرية

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

 لا أجدُ عذرًا لخطئكم العظيم إلّا ضعف قواكم الفكريّة
 

الحمد لله وحده، أمّا بعد؛ فهذا مقال كتبته تصويبًا لمسألة مهمة تعرَّض لها الأستاذ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، فلم يحالفه الصّواب فيها، وكنتُ بعثت باستدراكي إليه مع خطاب مني إليه لعلّه يصحح الخطأ، وحين لم يفعل فإني أقدمه إلى القراء اليوم مع خطابي إليه.. والله أسأل لي وله التوفيق والسّداد، ولسائر المسلمين. 
 
فضيلة الأستاذ -أبا عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري- وفقه الله،،، السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد: 
فأبعثُ إليكم تعقيبي على بعض ما جاء في مقالكم في جريدة الجزيرة المنشور في 2 شعبان 1431هـ، بعنوان "تحقيق أصولي"، في كلامكم على القرآن، واختياركم التوقف في كونه مخلوقًا أو غير مخلوق، وقد رأيتُ -وفقكم الله- أن تطلعوا على هذا التعقيب، لتراجعوا المسألة وتصححوا ما وقعتم فيه من خطأ، وتنشروا ذلك في الأسبوعين القادمين بلغة واضحة ورجوع صريح، فإنّه يجب عليكم ذلك، لأنّ هذه المسألة ليست مما يسع فيه الخلاف، والحقّ ضالة المؤمن، وقد قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: (ولا يمنعنكَ قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم فراجعتَ فيه رأيكَ فهديتَ فيه لرشدكَ أن تراجع فيه الحقّ، فإن الحق قديم).
وإن بقيت على رأيك في التوقف -وأعيذك بالله من ذلك- فإني أرى أنه لا يسعني إلا نشر التعقيب، بيانًا للحق، وبراءة للذمة، وقد كان في نيتي نشر التعقيب، ولكني آثرت -أولًا- مخاطبتكم وإطلاعكم.. وأسأل الله أن يشرح صدرك للحق، ويهديك إلى كلّ خير. 
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوك: عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك
6 رمضان 1431هـ. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
فقد اطلعتُ على المقال المسهب للأستاذ أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، المنشور في جريدة "الجزيرة" في الثاني من شعبان لعام 1431هـ بعنوان "تحقيق أصولي"، وقد أفاض الكاتب في الحديث عن نفسه -كعادته- ولاسيما في مقالاته الأخيرة، لكن تميَّز هذا المقال بمراجعات حسنة في سيرته وفي تعامله مع الآخرين، وقد اعترف الأستاذ فيه بضعف ذاكرته وضعف قواه الفكرية. 

ومما تضمّنه المقال: الحط مِن منزلة الإمامين ابن تيمية وابن القيم في علمهما واجتهادهما، وذلك كلّه من أجل تفضيل أبي عبدالرحمن لابن حزم وتعصبه له وغلوّه فيه، ولا يعنيني في هذا المقام الدفاع عن الإمامين، فإنّه لا يوافق أبا عبدالرحمن على ما قال إلا مَن له هوى وتحامل على الإمامين من خصومهما من طوائف المبتدعة، بل الذي يعنيني من هذا المقال كلّه قول أبي عبد الرحمن -هداه الله ووفقه- في نقده للمقلّدين للإمام ابن تيمية فيما يجزمون به تقليدًا له، قال: «ومن ذلك الجزم بأن القرآن غير مخلوق، ولا يحل الجزم بأنّه خالق أو مخلوق، بل الواجب التوقُّف اتباعًا لتوقف السّلف قبل الخلاف الذي بعضه اتباع لهم بإحسان، وبعضه خلاف لهم باجتهاد خاطئ» اهـ

وهذ كلام منكر، يحمل في طياته تصويب مذهب الجهمية في القرآن الذي كفَّرهم به أئمة السنة، وهو قولهم: القرآن مخلوق، وردوا عليهم، وصاحوا بهم من أقطار الأرض، وإيضاح ذلك: 
أن قوله «الجزم بأنّ القرآن غير مخلوق»: باطل؛ لأنّ مِن المعلوم بالضرورة أنّ الجزم بأن القرآن غير مخلوق هو مذهب أهل السّنة والجماعة، وهو سبب محنتهم على أيدي المعتزلة، في عهد المأمون ومَن بعده، وثبت في المحنة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، فلم يداهن ولم يتأوّل، فتبوّأ منزلة إمام أهل السنة. 
وأبو عبدالرحمن يرتضي في هذه المسألة العظيمة مذهب الواقفة، وهم طائفة من الجهمية، ارتضوا ألا يقولوا إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق، وهذا إمّا أن يكون شكًّا منهم أو نفاقًا مع أهل السنة، ولهذا عدَّهم الأئمة شرًّا من الجهمية المصرحين بمذهبهم، لأن مذهب الواقفة يمكن أن يروج لدى الأغرار والجهال.
ومِن المعلوم بداهة أن الشَّك في الحق كالتكذيب به، فالشّاك في صدق الرسول كالمكذّب له، فهكذا مَن يشكّ في أن القرآن غير مخلوق ولا يجزم، هو في حكم من يجزم بأن القرآن مخلوق.

وقول أبي عبد الرحمن «ولا يحل الجزم بأن القرآن خالق أو مخلوق، بل الواجب التوقُّف»: صريح في أنه يذهب إلى وجوب التوقف في المسألتين في كون القرآن خالقًا، وفي كونه مخلوقًا، ومعنى ذلك أنه يجوز أن يكون القرآن خالقًا، ويجوز أن يكون مخلوقًا، وهذا باطل، بل الواجب: الجزم بأن القرآن ليس بخالق، بل الله هو الخالق، والجزم بأن القرآن غير مخلوق؛ فإنه كلام الله، وكلامه سبحانه من صفاته، وليس شيء من صفاته مخلوقًا، ولهذا عُبِّر عن مذهب أهل السنة في القرآن بأنّه "كلام الله مُنزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود"
وقد أجاب الأئمة -رحمهم الله-، كعلي بن الحسين وجعفر بن محمد وابن المبارك وابن مهدي حين سُئلوا عن القرآن، أجابوا بقولهم: "إنّ القرآن ليس بخالق ولا مخلوق"، كما نقله عنهم اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (ج:2 ص: 264 وما بعدها)، وذكر البيهقي في كتاب الاعتقاد (ص: 102) أن هذا هو مذهب كافة أهل العلم قديمًا وحديثًا، وذكر أسامي أئمتهم وكبرائهم الذين صرحوا بهذا، ورأوا استتابة من قال بخلافه. اهـ

وقول أبي عبدالرحمن «بل الواجب التوقُّف اتباعًا لتوقف السلف قبل الخلاف»: أقول فيه: غلط أبو عبدالرحمن -عفا الله عنه- في نسبة التوقف إلى السلف، ومن هم السلف إلا الصحابة والتابعون؟! ولو كان الأمر كما قال لكان الجازمون بأن القرآن كلام الله غير مخلوق قد ضلّوا عن طريق السلف، وهذا ظاهر الفساد والبطلان، بل عبارة أبي عبدالرحمن تلك تقتضي ذلك، فإن الذين اختلفوا في القرآن ثلاث طوائف: 
1- أهل السّنة الذين؛ آمنوا بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وجزموا بذلك.
2- الجهمية؛ الذين جحدوا صفات الله، وجزموا بأن القرآن مخلوق. 
3- الواقفة؛ الذين لا يجزمون بشيء. 
وتقدم حكم الطائفتين عند أهل السنة، وعبارة أبي عبدالرحمن تقتضي أن الواقفة هم أتباع السلف، كما تقتضي أن قول الجهمية -وهو الجزم بأن القرآن مخلوق- هو من قبيل الخطأ في الاجتهاد، وكذلك عنده أن الجزم بأن القرآن غير مخلوق هو من قبيل الخطأ في الاجتهاد، ولا يخفى ما في هذا من التسوية بين مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة الجهمية في المصدر والحكم. 

وبعد؛ فلا أجد لأبي عبدالرحمن عذرًا في هذا الخطأ العظيم إلا اعترافه بضعف ذاكرته، وضعف قواه الفكرية، لكن سبق له في تباريحه في المجلة العربية (العدد 300) قوله: «كلمات الله ها هنا -يشير إلى ما في الحديث: أعوذ بكلمات الله التامات…- كنايةٌ عن مشيئته وقدرته وعلمه وحكمته وتدبيره جل جلاله» اهـ، وهذا عدول بالكلمات عن الحقيقة إلى المجاز، وكلماته -سبحانه- الكونيّة والشرعيّة كلّها مِن كلامه الذي هو عند أهل السنة كلام الله حقيقة، ويستدلون على ذلك بمثل قوله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115] وقوله سبحانه: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]
وهذه المقولة من أبي عبدالرحمن تدل على أن لديه تشوشًا قديمًا في مفهوم كلام الله، وأنا أدعوه إلى الرجوع والمراجعة في الكتب المصنفة في مذهب أهل السنة والرد على الجهمية؛ مثل: "شرح أصول السنة" للالكائي، و"السنة" لعبدالله بن أحمد، و"السنة" للخلال، و"الإيمان" لابن مندة، و"عقيدة أصحاب الحديث" لأبي عثمان الصابوني، وغيرها كثير لا تخفى على مثل أبي عبدالرحمن، أسأل الله أن يفتح عليَّ وعلى أبي عبدالرحمن ويبصِّرنا بالحق، وأن يمتِّعه بقواه الفكرية والبدنية، وأن يحسن لنا وله الخاتمة، وصلّى الله وسلّم على محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين. حرر في: 28-11-1431هـ

أملاه:
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك