الحمدُ لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
فيجبُ أن يعلمَ المسلمُ أنّ أهمَّ العلوم وأنفعها في كلّ زمانٍ ومكان: العلمُ الشّرعيّ، المستمدُّ مِن كتاب الله، وسنّة رسوله ولاسيّما في هذا العصر الذي طغى فيه ما يسمّى "بعلم المادة" أي العلوم الدّنيويّة، التي غلبت على النّاس وسيطرت على أفكارهم واهتماماتهم.
فأكثرُ المسلمين غلبَ عليهم الاهتمامُ بالعلوم الماديّة الدّنيويّة، والزّهد في العلوم الشّرعيّة، مع أنّ الواجبَ على المسلم إذا وجدَ مِن نفسِه محبّةً للعلوم الشّرعيّة ورغبة فيها وفي تحصيلها مِن مصادرها وتهيّأ له التّلقّي مِن أحد مِن أهل العلم العاملين النّاصحين: عليه أن يبادرَ لتحصيلها، ويحمد الله على هذه النّعمة؛ لأنَّ محبّة العلم الصّحيح -علم الكتاب والسّنّة والعلوم المُستمدَّة منهما- هي خيرٌ في العاجل والآجل، وبهذه العلوم صلاحُ الدّنيا والأخرة؛ ولهذا كان اهتمام السّلف بهذه العلوم، اقرأ- إن شئت- تاريخ المسلمين لتعرف مَن "العلماء" في عُرْفِ المسلمين في الصّدر الأوّل والقرون الأولى إذا ذُكِرَ "العلماء"، إنّهم العلماءُ بكتاب الله، وسنّة رسوله والعلماء بالعلوم المُستمدَّة مِن هذين الأصلين.
والعلومُ الشّرعيّة أنواع:
النّوع الأوّل: علوم شرعيّة أساسيّة؛ وهي التي جاءَ بها الوَحيُ.
النّوع الثّاني: ما يُسمّى "بعلوم الآلة" العلوم المُعينة؛ وهي وسيلة لتحصيل تلك العلوم الأساسيّة، ففهمُ القرآن وفهمُ السّنّة يحتاج إلى وسائل وعلوم مُعينةٍ على فَهْمِ كتاب الله وسُنَّة رسوله
فالعلماءُ بهذه العلوم هم العلماء في مفهوم المسلمين الأوائل، وإلى عصور مُتأخِّرة، فالمُحدِّثون، والفقهاء، واللغويون: معدودون أيضًا في العلماء؛ لأنَّ اللغة العربيّة هي لغةُ الكتاب والسُّنّة، وهي وسيلة مُعينة لفَهْمِ الكتاب والسُّنّة.
أمّا الآن: فخرج اسمُ "العلماء" وصار ينصرفُ في عُرْفِ كثيرٍ مِن المسلمين إلى علماء العلوم المتنوّعة، المختلفة، الماديّة؛ ولهذا صار يُقال الآن: "علماء الغرب، وعلماء كذا، وعلماء كذا"، فإذا جاء "علماء" بالإضافة: تبيَّنت المسألةُ؛ علماءُ الطّب، علماءُ الكيمياء، علماء كذا، فالإضافةُ تُحدِّدُ، لكن إطلاق "العلم" وإطلاق اسم "العلماء" هذا هو الذي فيه الخطأ، والأصلُ أنَّه اسمٌ لعلماء الشّريعة؛ فمفهوم العالِم والعلماء والعلم، والتّرغيب في العلم، والحثّ على العلم.
فالشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله- لمَّا قال في مطلع "الأصول الثلاثة" في المسائل الأربع: الأولى العلم، وفسّر هذا العلم بأنَّه معرفةُ الله ومعرفةُ نبيّه ومعرفةُ دين الإسلام بالأدلّة، فالحاجةُ ماسّة إلى هذا العلم -العلم الشّرعي-.
والعلمُ الشّرعيّ -الكتاب والسُّنّة- هو الذي تزكو به النّفوس، وتستنيرُ به البصائر، سمّاه الله "نورًا" قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن8] وقال سبحانه: وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113] الكتاب: القرآن، والحكمة: السّنة، فالقرآنُ والسّنّة هما النّور، أمّا ما عداه مِن العلوم فلا يُسمَّى "نورًا"؛ لأنَّها لا يحصلُ بها الاستبصارُ والفرقانُ بين الحقَّ والباطل، العلمُ المُنزَّل هو الذي يحصلُ به الفرقان بين الحقّ والباطل، يحصلُ به التّبصير، حتى يبصر الإنسانُ طريقه في الحياة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد28]
وهذا النّور هو الذي يحصلُ باتّباعه الفلاحُ، قال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
فالمقصودُ أنَّ العلمَ الشَّرعي ضروريٌّ للإنسان، وهو نوعان:
* ما هو فرضٌ على الأعيان؛ وهو ما لا يقومُ دينُ العبد إلّا به.
* وفرضُ كفاية؛ يجبُ على الأمَّة الإسلاميّة أن يكون فيها مَن يعلمه؛ ليبقى هذا الدّينُ والعلمُ الموروثُ عن الرّسول وهذا محقَّق لابدّ أن يكون فيها ولله الحمد؛ للضّمان الذي ذكره الله في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] وللخبر الصّادق عنه في قوله: (لا تَزَالُ طَائِفةٌ مِنْ أُمَّتي ظَاهِرينَ عَلَى الحَقِّ) لابدّ أن تكون قائمةً بالحقَّ علمًا وعملاً؛ لأنَّ القيام لا يتحقق إلّا بالعلم والعمل جميعًا، ولابدّ مِن تعليم النّاس هذه العلوم الشّرعيّة، لاسيما مع تقصير كثير مِن النّاس في العناية بالعلوم الشّرعيّة، نسألُ الله التّوفيق للعلم النّافع والعمل به إنّه سميعُ الدّعاء، والله أعلم.
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك
١ جمادى الأولى ١٤٣٤ هـ