بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلم على نبيّه وآله وصحبه أجمعين، أمّا بعد؛ فقد اطّلعتُ على كتاب "الجيرة بين المشروع والممنوع" الذي أعده أخونا الفاضل الدكتور سعيد بن وهف القحطاني –وفّقه الله-، وموضوع الكتاب عظيم؛ لأنّه يعالج قضية خطيرةً، تتضمّن منكراً؛ وهو ما يعرف عند قبيلة "قحطان" وقبائل أخرى "بالجيرة"؛ وهي عادة قبيحة مشتملة على مفاسد عظيمة، وصورتها كما ذكر المؤلف:
"أنّه إذا اعتدى شخص على شخصٍ فجنى عليه بقتلٍ أو ضرب أراق الدّم، فإن قبيلة الجاني المعتدي يذهبون إلى قبيلة أخرى فيقولون لهم: (ترانا رادين فيكم الشّأن مِن قبيلة آل فلان) المجني عليهم، على حسب لهجتهم أو نحو ذلك من الألفاظ، مع العلم أنّ الجاني قد هرب.. فعند ذلك تقوم القبيلة المردود فيهم الشأن ويلبسون السّلاح.. ثم يذهبون إلى قبيلة المجني عليه فيقولون: (تراكم مقروعين مِن آل فلان)، أي قبيلة الجاني، على حسب لهجتهم، أو نحو ذلك من الألفاظ، فتصبح قبيلة الجاني .. كلها تحت هذه الجيرة، وقد تخاف قبيلة المجني عليه تحت هذا التّهديد، ولا يحصل شيء مِن الاعتداء في الغالب، .. لكن لو لم يخافوا وحصل منهم اعتداء على قبيلة الجاني أو الجاني فإن قبيلة المردود فيهم الشأن يقومون بأخذ المثار مِن أي شخص مِن القبيلة التي لم تستجب لردّ الشأن، سواء عندهم في ذلك الجاني، أو أي فرد مِن أفراد قبيلته، والمثار نثر الدم ..".
وذكر أنواعها، ومراتبها، وما يترتّب على كلّ نوع منها، وذكر جملة مِن المفاسد العقديّة والاجتماعيّة المترتّبة على هذه العادة القبلية القبيحة (الجيرة) أو (رد الشأن)، أخطرها مفسدتان:
١- إيثار التّحاكم إلى قانون "الجيرة" على التّحاكم إلى شرع الله.
٢- ما يتضمّنه قانون "الجيرة" مِن الظّلم والعدوان بين القبائل؛ قبيلة المجني عليه، وقبيلة الجاني، والقبيلة المجيرة أو (المجوِّرة) كما ذُكر في توصيفها.
وقد بيَّن المؤلف بما ذكره مِن الأدلّة وأقوال أهل العلم خطر هذين الأمرين على عقيدة المسلم، وأن ذلك قد يفضي إلى أنواع من الكفر.
وقد قصد المؤلف في هذا البحث أمرين:
أحدهما: إنكار هذه العادة الجاهليّة، وبيان بطلانها شرعًا وعقلًا.
والثاني: الرَّدُ على مَن أفتى بجوازها.
وتممَّ البحث بذكر "الجيرة" الشّرعيَّة الجائزة، وبما تضمنه البحث يتضح الفرق بين "الجيرة الجاهليّة" الممنوعة و"الجيرة المشروعة"، فالجيرةُ الجاهليّة مستمدّةٌ مِن آراءٍ واستحسانات لجهالٍ لم يصدروا فيما شرَّعوه عن عقلٍ ولا شرع، وحقٌّ لما هذا شأنه، أن يكون فساداً لا صلاح فيه، وشرَّاً على مَن قبله وعمل به في دينه ودنياه، فحمايةُ الظالم والعدوان على البريء مِن أعظم المنكرات، فكيف إذا جُعل ذلك قانونًا يتضمّن استباحة ما حرَّم الله مِن العدوان على الأنفس والأموال، ونصرِ الظّالم، وقد قال -صلّى الله عليه وسلّم-: «لَعَنَ الله مَن آوى مُحْدِثًا» [رواه مسلم (1978)]
وأمّا "الجيرةُ الشّرعيّة": فتقوم على العدل والإحسان؛ إمَّا بإجارة الكافر الحربي الذي رغب في معرفة الإسلام كما قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ [التوبة:6]، وإمَّا بنصر المظلوم وحمايتِه مِن الظَّالم، ومنعِ الظالم مِن ظلمه، كما قال -صلّى الله عليه وسلّم-: «انصرْ أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا»، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: «تأخذُ فوقَ يديه» [رواه البخاري (2444)]، وفي لفظ قال: «تحجزه أو تمنعه مِن الظّلم فإنّ ذلك نصره» [البخاري (6952)].
والحاصلُ أنّ الأمر كما ذكر المؤلّف وفّقه الله، فهذه الجيرة المحدثة المشتملة على تلك المفاسد: محرَّمة، يجب إنكارُها، ويجبُ على القبائل التي عُرِفت هذه العادةُ بينهم، وعرفوا تحريمَها أن يتوبوا إلى الله، ويتنَاهوا عنها، وأن يحكِّموا فيما يقع مِن بعضهم على بعض حُكمَ الله ورسولِه، وذلك بالتّرافع إلى المحاكم الشّرعيّة، ويحذروا مِن اتباع الهوى والتّعصب لعادات الآباء والأجداد، فإن الله ذم في كتابه الذين قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23]
وفي حكم الله ورسوله الخيرُ كُلُّه، وفي حكم الجاهلية الشَّرُ والفساد، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:5]، فجزى الله الشّيخ سعيد خيرًا على هذا الجهد المبارك، ونفع به إنّه تعالى وليّ ذلك، والقادر عليه، وصلّى الله وسلّم على عبده ورسوله.
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك
الإثنين 1434/2/25 هـ