الرئيسية/المقالات/صلاة الخسوف والخطبة بعدها تبصير وتذكير

صلاة الخسوف والخطبة بعدها تبصير وتذكير

صلاةُ الخسوفِ والخطبة بعدها : تبصيرٌ وتذكيرٌ
 

الحمدُ لله والصَّلاة والسَّلام على نبيّنا محمَّد، وعلى أله وصحبه؛ أمَّا بعد:
فإنَّ مِن الصَّلوات ذوات الأسباب التي سنَّها رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأمرَ بها عند حدوث سببها صلاةُ الكسوف، فقد كُسِفَتِ الشَّمسُ على عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يوم مات ابنُه إبراهيم، فأمر عند ذلك مناديًا ينادي: الصَّلاةُ جامعةٌ، فصلَّى صلاةً طويلة أطال فيها القيام والرّكوع والسّجود، ثم خطب بعد ذلك خطبةً بيَّنَ فيها الحكمة مِن كسوف الشَّمس والقمر، وأبطل فيها اعتقاد أهل الجاهليَّة، وأمر فيها بِمَا ينبغي فعله عند كسوف الشَّمس والقمر؛ من الصَّلاة، والصَّدقة، والدّعاء، والذّكر، وأخبر في خطبته بأنّه عُرضت عليه الجنَّةُ والنَّار في مقامه في الصَّلاة، وأخبرهم عن غيرة الله إذا ارتُكِبت الفواحشُ، وهذه بعضُ الأحاديث الصَّحيحة المتضمّنة لما تقدمت الإشارة إليه:
عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: انكسفتِ الشَّمسُ يوم ماتَ إبراهيمُ فقالَ النَّاس: انكسفتْ لموت إبراهيم، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
(إنَّ الشَّمسَ والقمرَ آيتان مِن آيات الله لا ينكسفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياتهِ فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلّوا حتى ينجلي).
وعَن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَبَعَثَ مُنَادِياً يُنَادِي: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ؛ فَاجْتَمَعُوا، وَتَقَدَّمَ؛ فَكَبَّرَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ.
وعَن أَبِي مَسْعُودٍ – عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو- الأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ -رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:
(إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لا يَنْكسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ).
وعَن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالنَّاسِ؛ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ -وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ- ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ -وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ- ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ؛ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
(إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا). ثُمَّ قَالَ: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاَللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً).

وهذه بعض فوائد هذه الأحاديث:
1- أنَّ الشَّمسَ كُسِفَتْ على عهد النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يوم ماتَ ابنُه إبراهيم. قال بعض العلماء: "إنَّه لم يحدث الكسوفُ على عهد النَّبي -صلّى الله عليه وسلّم- إلا مرة".
2-  أنَّه -صلّى الله عليه وسلّم- أمر مناديا ينادي: الصَّلاة جامعة.
3- استحبابُ المبادرة والنّداء لصلاة الكسوف بالصّيغة الواردة، واستحباب فعلها جماعة.
4- الحكمة مِن حدوث الكسوف: وهي تخويفُ الله للعباد.
5- مشروعيَّة صلاة الكسوف في أيّ وقت، لكلِّ أحد؛ مِن مقيم ومسافر، ورجل وامرأة.
6- مشروعيَّة الدّعاء والاستغفار والصَّدقة عند الكسوف، وغيره مِن الآيات التي يُخوّف الله بها عبادَه.
7- أنَّ صلاة الكسوف ركعتان بأربع ركوعات وأربع سجدات، قبل كلّ ركوع قيامٌ وقراءة.
8- الإطالة في صلاة الكسوف في قيامها وركوعها وسجودها.
9- الجهر فيها بالقراءة، كما جاء في رواية عن عائشة.
10- أنَّ كلَّ قيامٍ وكلَّ ركوعٍ أطول مِن الذي بعده.
11- إبطال اعتقاد أهل الجاهليَّة في الكسوف.
12- الخطبة والموعظة بعد صلاة الكسوف، ولو قد تجلَّى الكسوفُ.
13- أنَّ الله يغار إذا انتُهِكَتْ حرماته.
14- أنَّ مِن أسباب غيرة لله: الزنا؛ لقوله:
(مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ).
15- أنَّ العلم بما في الغيب مِن أمور عظيمة: يُوجب الخوف الشَّديد.
16- أنَّ ما يُشرع مِن الصَّلاة والدَّعاء عند كسوف الشَّمس: يشرعُ لخسوف القمر؛ خلافًا لِمَن فرَّق بينهما.

وبعد: فوصيَّتي للأخوة الفضلاء أئمة المساجد أن يقتدوا بالنَّبي -صلّى الله عليه وسلّم- في صفة صلاة الكسوف؛ لقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (صلُّوا كما رأيتموني أُصلّي)، وقد عُلِمَ ممَّا تقدَّم أنَّ مِن سنن هذه الصَّلاة الخطبةُ بعدها بفعله -صلّى الله عليه وسلّم- فينبغي للأئمة أن يقتدوا بالنَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيخطبوا النَّاس بعد الصَّلاة بقراءة هذه الأحاديث، أو يذكروهم بما تضمَّنته مِن الأحكام والحكم والمواعظ، ويحذروهم مِن الغفلة عن آيات الله، وعن التَّهاون بفرائض الله مِن الصَّلوات الخمس وغيرها، وعن التَّهاون بمعاصي الله خوفًا من الله، ولا يخفى أنَّ للخطبة بعد صلاة الكسوف شأنًا عظيمًا وأثرًا كبيرًا، فينبغي للأخوة الأئمة أن يحرصوا على إحياء هذه السُّنَّة التي تخفى على بعض الأئمة أو على كثير منهم.
نسأل الله أن يوفِّقنا جميعًا لطاعته والاهتداء بهدي نبيّه -صلَّى الله عليه وسلَّم-. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا  [الأحزاب:21]. وصلَّى الله على نبيّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
 

قال ذلك:
عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
حُرِّر في يوم الجمعة الموافق 14 / ذي القعدة / 1439 هـ