الرئيسية/المقالات/حكم توسعة المسعى والسعي فيها
sharefile-pdf-ofile-word-o

حكم توسعة المسعى والسعي فيها

حكم توسعة المسعى والسّعي فيها
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
الحمد لله وحده، وصلّى الله وسلّم على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد قال الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة158]
الصفا والمروة: معلمان من معالم الدين، وشعيرتان من شعائر الله، والطواف بهما من مناسك الحج والعمرة، والطواف بهما: هو التردد بينهما؛ تعبّدًا لله وتأسّيًا برسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-
والصفا والمروة لا يحتاجان إلى تفسير إلا لمن لم يرهما؛ لأنّه لم يحج أو يعتمر، فمن حجّ أو اعتمر فإنّه يعرفهما بالمشاهدة، وقد دلّ الكتاب والسنة والإجماع على أنّ: نسكَ الطواف بهما لا يصح إلا بينهما، وقد ورث المسلمون موضعَ الطواف بالصفا والمروة -طولاً وعرضاً- ميراثاً عمليّاً، ولم يختلف المؤرّخون الذين ذرعوا عرضه اختلافا بيّنا، بل كان ذرعهم متقاربًا.

وقد نصّ الفقهاء -المتقدّمون والمتأخّرون- على عدم صحة من خرج في سعيه عن عرض المسعى، ولم يقل أحد من الفقهاء والمؤرخين إنّ جَبلَي الصفا والمروة ممتدان شرقاً، مما يدلّ على بطلان دعوى من ادّعى ذلك، فالقول بجواز توسعة المسعى بناءً على امتداد جبلي الصفا والمروة -زعموا- يتضمّن تجهيل الفقهاء والمؤرخين بالواقع -أو جمهورهم- على ما اعتاده الناس من الاقتصار على ذلك المكان المحدود، وعدم مراعاة امتداد الصفا والمروة المزعوم.
وما ذكره المؤرّخون وتمسك به المجوّزون من “نقل المسعى عن موضعه لمّا أراد المهدي توسعة المسجد الحرام”: لا يجوز أن يكون معناه أنّه نَقَل المسعى بطوله من الصفا إلى المروة من ناحية المسجد، التي هي الجهة الغربية للمسعى، إما بتضييق عرضه أو بدفع مساحته إلى جهته الشرقية، لأن ذلك يقتضي أمرين:
الأول: أنّ جَبلَي الصفا والمروة كان لهما امتداد كثير من الجهة الغربية، وكان المسعى بينهما، وهو موضع السعي الذي سعى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون قبل المهدي، وهذا لم يقله أحد فيما أعلم.
الثاني: أنّ ذلك يقتضي أنّ المسعى كان متّصلاً بالمسجد من جهته الشرقية في عهد المهدي ومن قبله قبل التوسعة، وهذا لا يصح؛ لأنّ المسعى لم يزل تفصل بينه وبين المسجد بيوت، وكلما حدثت توسعة هُدم منها، وقد أدرك الناس بعض البيوت قبل توسعة الحكومة السعودية في عام 1375 هجرية، كذلك فيما بين باب النبي وباب السلام، وأنا ممن عرف ذلك، فكان القاصد لباب السلام من المسعى يمر بزقاقٍ ضيّق، عن يمينه وشماله مبانٍ، ومن طريق آخر يمر بمكتبات، والخارج من باب السلام لا يصل إلى المسعى إلاّ من أحد هذين الطريقين.

والذي يدل عليه كلام الأزرقي ومن تبعه في شأن توسعة المهدي الثانية: أنّ التوسعة كانت من الجهة الجنوبية للمسجد؛ لأن هذه التوسعة مسبوقة بتوسعة للمهدي نفسه، شملت الجهات الثلاث من المسجد: الشرقيّة والغربيّة والشّاميّة، مما أدّى إلى أن تكون الكعبة في الجانب الجنوبي من المسجد، أي غير متوسطة، وهذا هو الذي حمل المهدي على توسعته من الجهة الجنوبية.
ومعلوم أنّ الجهة الجنوبية لها طرف من الغرب وطرف من الشرق، وهو ما يلي المسعى، وهذا هو الطرف الذي يتكلّم عنه المؤرّخون، وهنالك دار ابن عباد.
وظاهر كلام الأزرقي -بل صريحه-: أنّ المسيل -أي المكان الذي يجري فيه السيل من أعلى مكة إلى أسفلها- كان يقع جنوبي المسجد، متصلاً به، والدور من ورائه.
ومعلوم أن مكان السعي -الذي هو الهرولة- إنّما تكون في بطن الوادي، وهو المسيل، فاقتضت توسعة المسجد: هدمَ الدور الواقعة جنوبي الوادي، وجعلَ المسيل مكانها، وإدخالَ أرض المسيل في المسجد، فلزم من ذلك: قرب المسيل الذي هو بطن الوادي من الصفا، فلزم من ذلك: تغير مكان السعي، الذي هو الهرولة أو بعضه؛ حسبما تقتضيه عبارة الأزرقي، وهي قوله: “فهدموا أكثر دار ابن عباد وجعلوا المسعى والوادي فيها”

وأساس الاشتباه على كثير من الباحثين -فيما وقفت عليه-: أن لفظ “المسعى” يطلق على بطن الوادي؛ لأنه مكان السعي -الهرولة- كما قال جابر -رضي الله عنه-: (فلما انصبت قدماه في بطن الوادي: سعى، حتى إذا  صعدتا: مشى)
ويطلق “المسعى” على ما بين الصفا والمروة، فتوهّم كثيرون أنّ  تغيير المسعى -الذي ذكر الأزرقي- كان شاملاً لطوله، والحق أن كلام الأزرقي لا يتعلق إلا بمكان السعي -الهرولة- وهو بطن الوادي، وهذا هو الصواب المقطوع به.
قال ابن القيم: “والظاهر أن الوادي لم يتغير عن وضعه” وهذا يتعارض مع كلام الأزرقي؛ فإنه صريح في أنّ الوادي متّصل بالمسجد، والدُّور من ورائه في الجهة الجنوبية، وقول ابن القيم يقتضي أنّ الدُّور التي هُدمت لتوسعة المسجد هي متصلة بالمسجد والوادي من ورائها، وعلى قول ابن القيم: فإنّه لم يتغير موضع السعي -الهرولة-

والظاهر أنّ ما ذكره الأزرقي: مِن أنّ الوادي كان متصلاً بالمسجد والدور من ورائه، ومنها دار ابن عباد من الطرف الشرقي، وأنّه هُدم أكثرها وصار بطن الوادي مكانها: هو الصحيح.
ومعلوم أن ذلك لا يختص بدار ابن عباد، بل هدمت الدور التي هي غرب عنها، وجعل الوادي مكانها، وإنّما خُصّت دار ابن عباد بالذكر: لأنّها متصلة بالمسعى.
ويدل لصحة ما ذكره الأزرقي: ما جاء في صحيح البخاري -تعليقًا- أنّ ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: (السعي من دار بني عباد إلى زقاق بني أبي حسين) وهذا نصّ في أنّ دار ابن عباد تقع جنوب الوادي.
ويُجمع بين كلام ابن القيم وكلام الأزرقي بأنّ موضع السعي هو ما بين العَلمين، وأنّ العلمين وُضعا محافظةً على موضع السعي الذي سعى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى هذا فالذي تغيّر هو موضع الوادي لا موضع السعي، وإليك نصّ عبارة ابن القيم في وصفه لسعي النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “ثم نزل إلى المروة يمشي، فلمّا انصبت قدماه في بطن الوادي: سعى، حتى إذا جاوز الوادي وأصعد: مشى، هذا الذي صحّ عنه، وذلك اليومَ قِبَلَ الميلين الأخضرين في أول المسعى وآخره”، قال: “والظاهر أن الوادي لم يتغير عن وضعه”
وقوله “وذلك اليومَ” أي: وذلك الموضع الذي سعى فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو اليوم قِبَل –أي مقابلَ- الميلين الأخضرين.
وقوله “الميلين الأخضرين في أول المسعى وآخره”، يريد: مكان السعي الذي هو الهرولة، لا المسعى الذي بين الصفا والمروة، فابن القيم أراد أنّ المسعى لم يتغيّر عن وضعه، والأزرقي أراد أنّ الوادي تغير عن موضعه، وكلاهما صحيح،.وعلى هذا فلم يتغير المسعى: لا بمعناه الشامل ولا بمعناه الخاص، وهو مابين العَلمين، وإنّما الذي تغير بطن الوادي.

وبعد؛ فتوسعة المسجد من الجهة الشرقية: لا وجه لها، ولا دليل عليها، وقد اتّفق العلماء على عدم جواز السعي خارج المسعى، أعني ما بين الصفا والمروة كما تقدم، وجاء عن الشافعي: “لو التوى الساعي إلى زُقاق العطارين لم يصح سعيه”، وجرى على ذلك: قرار لجنة العلماء الذين نظروا بأمر من المفتي الأسبق، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- في حدود المسعى والصفا والمروة، بمناسبة توسعة المسجد الحرام، كما جرى على ذلك: قرار هيئة كبار العلماء برئاسة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ في قرارهم ذي الرقم (227) في 22/2/1427 المتضمن: عدم جواز توسعة المسعى، وقد وفّقوا في هذا القرار، ولكن امتنع عن التوقيع على القرار اثنان أو ثلاثة.
ولعل هؤلاء المشايخ -بامتناعهم- قد تحمّلوا مسؤولية ما جرى بعد ذلك من التوسعة في عرض المسعى، وما تبع ذلك من اضطراب لدى العامة والخاصة في حكم السعي في التوسعة -المسعى الجديد- لأنّ مضي ولي الأمر كان مبنيّاً على خلاف هؤلاء المشايخ -عفا الله عنهم- فيا ليتهم لزموا الجماعة، وتمسكوا بما مضى عليه علماء الإسلام وعمل المسلمين عبر القرون، إلى أن حدث هذا الخلاف عند البحث في موضوع توسعة المسعى.

وأما الذين رأوا جواز توسعة عرض المسعى –أعني الذي بين الصفا والمروة-: فأعظم ما استدلوا به واعتمدوا عليه ثلاثة أمور، وما سواها لا يستحق الوقوف عنده:
الأول: ما ذكره المؤرخون من تغيير في المسعى، وقد سبق الجواب عنه، وبيان أنّ التغيير المذكور لم يكن في عرض المسعى، وأنّ اعتقاد ذلك غلط ظاهر ووهم لا أساس له، إلا اشتباه المسعى الذي هو مكان الهرولة -وهو بطن الوادي- باسم المسعى الشامل لكل ما بين الصفا والمروة.
الثاني: إفادة عدد من كبار السن بأنّ الصفا والمروة لهما امتداد من الجهة الشرقية، وعلى هذا فالسعي بينهما سعي بين الصفا والمروة، نقول: لو ثبت هذا لكان كافياً عن كل استدلال، ولكن هيهات!، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأمور تدل على بطلان هذا الدليل والاستدلال، وهي:
أ: أن إفاداتهم لم تكن متطابقة، فهي دائرة بين الإجمال والتردد والاقتصار على مشعر الصفا.
ب: أنهم وقت تحملهم -لما سُمِّي شهادة- كانوا صغار السن، بين خمسة عشر وخمسة وعشرين عاما، وهم مع ذلك معدودون في العوام، ولا خبرة لهم بالأمور الشرعية إذ ذاك، ولم يرد في صك تسجيل أقوالهم ما يدل على رتبتهم في العدالة والعلم، والظاهر أن تسجيل إفاداتهم كان بعد الشروع في التوسعة، فلم تكن التوسعة مبنية على شهادتهم.
ج: أنّ تحملهم لهذه الشهادة لم يكن مقصوداً، بل كان اتّفاقاً، ومعلوم أنّ الذي يرى الشيء على هذا الوجه لا يكون له به اهتمام بالتحقق من الواقع ومما يراه.
د: أنّ هذه الشهادة مقابلة بشهادة العلماء في ذلك الوقت، الذين كانت أعمارهم بين الستين والثمانين، وبعضهم من علماء مكة أو المقيمين بمكة، وقد أناط بهم سماحة المفتي الأسبق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- مسؤولية النظر في حدود المسعى، وقد اجتمعوا لذلك، ونظروا في حد عرض المسعى وحد الصفا والمروة، واستعانوا بالمهندسين وأهل الخبرة، وقد كانت تلك المشاعر وما حولها مكشوفة لهم، لأنه قدم هُدم ما حولها من الأبنية، فأصدروا قرارهم التاريخي المبني على الفقه الشرعي وتطبيقه على الواقع المشاهد.
ولا يخفى أنّ شهادة هؤلاء العلماء -كما جاء في قرارهم- لا يجوز أن تعارض بشهادة أولئك، فإنّه لا نسبة بينهما، ولا نسبة بين هؤلاء وأولئك، في السن والعلم والخبرة والعدالة، ولا نسبة بين شهادة هؤلاء وإفادة أولئك.
الثالث: ومن أدلة مُجوزي التوسعة: أنّ جذر جبلي الصفا والمروة قرر المهندسون: أنّه ذاهب في الأرض شرقاً وغرباً، وعليه: فالسعي بين ما يوازي هذا الامتداد لجذر الصفا والمروة: سعي بين الصفا والمروة.
وقد أجاب العلماء عن ذلك: بأنّ مناط الحكم هو الجبل الظاهر، وامتداد أصل الجبل ليس له حكم الجبل؛ لا شرعاً ولا عرفاً، فمن حلف ألا يقعد على جبل لا يحنث بقعوده على أرض يمتد أصله تحتها، فمثله مثل الشجرة لا يثبت لمالكها ملك ما امتدت إليه عروقها.

وبعد؛ فقد ظهر ضعف هذه الأدلة الثلاثة لمُجوزي التوسعة، وما عداها من الاستدلالات: فلا يعول عليه، وأما ما طفحت به الصحف من فتاوى وتأييدات للتوسعة ممن يعتد به ومن لا يعتد به: فلا يعول عليه، لأنّ أكثرها ليس مبنياً على خبرة بالواقع، ومن المؤسف أنّهم لم يعرجوا على القول الآخر، فكأنّ القضية عندهم محل إجماع، مع أنّ القول بعدم جواز التوسعة: أقوى وأظهر دليلاً.
إذا ثبت ما تقدم: فمن المعلوم أنّ هذا الاختلاف في حكم توسعة المسعى ينبني عليه الاختلاف في حكم السعي في التوسعة -المسعى الجديد-، فمن ذهب إلى جواز التوسعة، يقول: “إنّ السعي في المسعى الجديد كالسعي في المسعى المعروف الموروث خلفاً عن سلف” ومن ذهب إلى أنّه لا تجوز التوسعة فإنّه يلزمه -ضرورةً- أن يقول: “إنّ السعي في التوسعة لا يصح”.
ويتعلق بذلك: مسألةُ حكم السعي بين الصفا والمروة، وفيه لأهل العلم ثلاثة مذاهب مشهورة: 1- أنه ركن في الحج والعمرة 2- أنه واجب 3- أنه سنة.
والقول الثالث مرجوح، فيبقى النظر في القولين الأوّلين، فمن ذهب إلى أنه ركن –وهو الذي عليه كثير من العلماء وعليه الفتوى- فيقول: إنّ الحج والعمرة لا يتمّان بدونه، ومن قال “إنّه واجب” يقول: إنّ تركه يجبر بدم، كسائر واجبات الحج والعمرة.
وعلى هذا فإذا تعذر السعي في المسعى المعروف كالحال الراهنة، فمن قال “إنّه ركن” يقول: لا ينبغي الشروع في العمرة، مع العلم بعدم القدرة على إتمامها. ومن قال “إنّ السعي ليس بركن، بل واجب”: فإنّه يمكن أنْ يعتمر ويُهدي لتعذر السعي، ويمكن أنْ يقال: إنّه واجب سقط بالعجز عنه، أما القائلون بجواز التوسعة: فلا ترد عندهم مسألة حكم السعي في الحج والعمرة.

هذا كله متعلق بأهل النظر والاستدلال، أما عامة الناس: فهم على ذمة من أفتاهم، ووجود المسعى الجديد فتوى عملية، وعلى من سئل عن السعي فيه أن يفتي بما يدين لله به، ويعتقد أنّه الحق، وعليه أن ينصح لسائليه، ويدلهم على ما يراه صواباً.
هذا ونسأل الله لولي أمرنا أن يوفّقه إلى الرجوع إلى ما قرره أهل العلم في هذه البلاد، ومضى عليه علماء الأمة وعمل المسلمين، والله الهادي إلى سواء السبيل. وصلّى الله وسلّم على عبده ورسوله محمّد وعلى وآله وصحبه أجمعين. هـ  حرر في:1429/07/20 هـ

أملاه:
عبدالرّحمن ناصر البرّاك