الرئيسية/المقالات/القول بقِدم العالم

القول بقِدم العالم

القول بقِدم العالم 

 

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
الحمد لله، وصلّى الله وبارك على عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد
فقد أخبر -سبحانه وتعالى- أنّه استوى على العرش في سبعة مواضع من القرآن، فآمن بذلك أهلُ السنة، وأثبتوا الاستواء بمعناه، وقالوا: "الاستواء معلوم –يعني: معلومٌ معناه في اللغة العربية؛ لأنّ القرآن نزل بلسانٍ عربيّ مُبين- والكيفُ مجهولفكيفيّة الاستواء على العرش هي مما استأثر الله بعلمه كما يقولون، إنّ استواء الله تعالى لا يماثل استواء المخلوق. وقالوا: إن استواءه فعلٌ مِن أفعاله التي تكون بمشيئته -سبحانه وتعالى-، وهو فعَّال لما يريد.
والذي قال: "إنه يمكن استواؤه على بعوضةأو "لو أخبرنا أنّه استوى على بعوضة لسلّمنا بذلكهو: عثمان بن سعيد الدارمي، لا "ابن تيمية" رحمهما الله، وقال هذا مبالغةً في الرّد على من أنكر استواء الله على عرشه، ولا أذكر نصّ عبارته، ولو لم يأتِ بهذا التعبير لكان أولى، فهو -سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير.
والظاهر أنّه لم يقل "إنّه -تعالى- يمكن استواؤه على ظهر بعوضة" بل لعله قال: "لو أخبرنا بذلك لآمنا بهفإنّه -سبحانه وتعالى- أصدق الصادقين.
ولا يلزم من هذا الافتراض أن يكون ممكنًا فضلاً عن أن يكون واقعًا، فإنه -تعالى- قد قال: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا (الأنبياء:22)

وأمّا القول بقدم العالم –أيبقدم هذا العالم المشهود الذي منه السماوات-: فقولٌ باطل، فإنّ هذا العالم مخلوق في ستة أيام؛ كما أخبر الله، بل إنّ السّموات والأرض كان خلْقُها بعد تقدير مقادير الخلائق بخمسين ألف سنة، فهو مُحدَث وليس بقديم، والقول بقدم هذا العالم الموجود: هو قول ملاحدة الفلاسفة، الذين يسمون الخالق -سبحانه وتعالى-: "العِلَّةَ الأولى" و"مبدأَ الوجود" ويقولون إنّه عِلّة تامة للموجودات، و"العلة التامة" تستلزم معلولها، فهذا العالم قديم بقدم علَّته، ومعناه: أنّ وجوده لم يُسبق بعدم.
والإمام ابن تيمية يقول بقدم جنس العالم، أو جنس المخلوقات، أو بتسلسل الحوادث، أو بدوام الحوادث بالأزل، وهذه عبارات مؤدّاها واحد، ومعنى هذا: أنّ الله لم يزل يخلقُ ويفعلُ ما يشاء، فما من مخلوق إلا وقبله مخلوق إلى ما لا نهاية؛ لأنّ الله لم يزل موجودًا، ولم يزل على كل شيء قدير، ولم يزل فعَّالاً لما يريد.
فيقتضي ذلك: أنّ المخلوقات لم تزل، أو أقل ما يقال إنه يمكن ذلك، فإنّه لا يلزم تسلسل الحوادث؛ لأنّه لا يستلزم أن يكون شيء من الموجودات مشاركًا لله في قدمه؛ لأنّ كلّ مخلوق حادثٌ بعد أن لم يكن، فهو مسبوقٌ بعَدمِ نفسه، والله تعالى- لم يسبق وجوده عدمٌ، بل هو- سبحانه وتعالى- قديم أزلي، فلا بداية لوجوده، ولا نهاية، ومن أسمائه الأول والآخر، فهو الأول فليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء.

والذين ينكرون على ابن تيمية هذا القول -وهو ليس قول ابن تيمية وحده، بل قول كل من يؤمن بأنّ الله لم يزل على كل شيء قديرًا، ولم يزل فعَّالاً لما يريد- فالذين ينكرون هذا القول لم يفهموا حقيقته، ولو فهموا حقيقته لَـمَا أنكروه، فالذين ينكرون تسلسل الحوادث في الماضي أو دوامها في الماضي، وأنّ ذلك ممتنع: يلزمهم أنّ الله كان غيرُ قادرٍ، ثم صار قادرًا، وغيرُ فاعلٍ ثمّ صار فاعلاً، وهذا يقول به كثير ممن يقول بامتناع حوادث لا أول لها.
ومن قال بامتناع دوام الحوادث في الماضي، وقال مع ذلك بأنّ الله لم يزل قادرًا وفاعلاً: كان متناقضًا، ويلزمه الجمع بين النقيضين

وبسبب اعتقاد أنّ دوام الحوادث في الماضي أو المستقبل ينافي أوليتهسبحانه- وآخريتهقيل بامتناع الحوادث في الماضي وفي المستقبل، فنتج عن ذلك القول بفناء الجنة والنار، وهذا ما ذهب إليه "جهم بن صفوان" ومن تبعه، وهذا ضرب من الكفر بما أخبر الله به، ورسوله -صلى الله عليه وسلم– والله تعالى قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، كما في عبارة الإمام الطحاوي، أما ما سوى الله فكلٌّ مسبوقٌ بعدمِ نفسه، ومن شاء -سبحانه وتعالى- بقاءه على الدوام وأنّه لا يفنى: فهو باقٍ بإبقاء الله وبمشيئته -سبحانه وتعالى- فلا يكون شيء من المخلوقات مشابهًا لله في خصائصه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (الشورى:11) وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.  حرر في:1425/11/21 هـ

 

أملاه:
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك