الرئيسية/فتاوى/الرد على شبهة الاحتجاج بعدم التوفيق في فعل المعاصي
share

الرد على شبهة الاحتجاج بعدم التوفيق في فعل المعاصي

السؤال :

فضيلة الشَّيخ عبدالرَّحمن البرَّاك؛ حفظكم الله ورعاكم ونفع بعلمكم: مِن المعلوم أنَّ الهداية هدايتان؛ هدايةُ الدَّلالة، وهدايةُ التَّوفيق، ففيما يخصُّ هداية التَّوفيق قد يحتجُّ بعضُ النَّاس بأنَّ الله لم يوفِّقه للهداية، ويقول: لو أنَّ الله وفَّقني لكنتُ مِن الصَّالحين، ومِن المعلوم أنَّ قوله هذا مردودٌ عليه، ولكن -وفَّقكم الله- كيف نردُّ عليه شبهته ونبيّنُ له القول الفصل بالدَّليل ؟  

الحمدُ لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على مَن لا نبي بعده؛ أمَّا بعد :

فإنَّ مِن أصول الإيمان: الإيمانَ بالقدر خيره وشره؛ فيجبُ الإيمان بأنَّ كلَّ ما يجري في هذا الوجود فبتقديره وتدبيره سبحانه، وبقضائه ومشيئته، وبقدرته وحكمته تعالى، لا مانعَ لِمَا أعطى، ولا معطيَ لِمَا منعَ، ومِن ذلك: الهدى والضَّلال، فهما بمشيئته وحكمته عزَّ وجلَّ، يُضِلُّ مَن يشاءُ، ويَهدي مَن يشاءُ، وهو العزيز الحكيم، ولكن ليس لأحد أن يحتجَّ على كفره ومعاصيه بالقدر، ولا على ترك ما يجب عليه بأنَّ الله لم يشأ ذلك له؛ فتلك حجة المشركين الذين قالوا: لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148]، وهي حجةٌ داحضةٌ عند ربهم، فهي كلمةُ حقٍّ أريدَ بها باطلٌ، وهو الاعتذار لأنفسهم في شركهم، فشركُهم أظلمُ الظُّلم، فلو صحَّت لهم هذه الحُجَّة لصحَّ لكلِّ ظالمٍ مِن قاتلٍ وسارقٍ ومفسدٍ في الأرض أن يحتجَّ بالقدر لدفع اللوم عن نفسه على قبيح فعله، وهذا هو الفساد العريض، فلا يستقيم على هذا التَّصور شيءٌ مِن أمر الدنيا والآخرة.

وعلى ذلك؛ فلابدَّ مع الإيمان بقدرته تعالى وعموم مشيئته مِن الإيمان بشرعه عزَّ وجلَّ، وهو أمره ونهيه على ألسن رسله، مع الإيمان بحكمته تعالى في شرعه وقدره، فلا يُتبع مقتضى شرعه بمقتضى قدره، ولا يُعارض بينهما، والقدر يؤمَن به ولا يُحتجُّ به، والشَّرع يؤمَن به ويُعمل به، وهذا هو الصراط المستقيم في هذا المقام، وهو الجمعُ بين الإيمان بالشرع والقدر، والإيمانُ بالقدر يقتضي التَّسليم لله والاستعانة به والتَّوكل عليه، والإيمانُ بالشَّرع يقتضي طاعة الله ورسوله والانقياد للشرع، ويدخل في ذلك فعلُ الأسباب النَّافعة، وتركُ الأسباب الضَّارة، وكما أنَّ هذا موجب الشَّرع فهو موجب العقل والفطرة، وقد جعل الله للسعادة أسبابًا وللشقاوة أسبابًا، كما جعل للرزق أسبابًا ولتحصيل العلم أسبابًا؛ فالذي يطلبُ الرزق وغيره مِن الحظوظ ويأخذ بأسباب ذلك، ولا يَعذر نفسه في التفريط بذلك، ثم يفرط في أسباب السَّعادة في الآخرة ويعذر نفسه محتجا بالقدر = يكونُ متناقضًا ومتَّبعًا لهواه.

وبعد؛ فقول القائل “لو وفَّقني الله لكنتُ صالحًا” هو كقول المشركين: لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا، وكقول القاتل: “لو شاءَ الله ما قتلتُه”، ومثل ذلك مِن الأقوال التي لا يقصد بها الإيمان بالقدر، بل يقصد بها معارضة الشرع، والاعتذار للنَّفس. نعم؛ لا يستطيع العبدُ أن يهتدي إلا بهُدى الله وتوفيقه، ولكن ذلك فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء، ولذا شرع للعبد أن يسأل ربَّه الهدى، ومِن ذلك دعاء الفاتحة: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، ومما يشهد لذلك قوله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي؛ كلكم ضالٌّ إلَّا مَن هديته، فاستهدوني أهدكم).

ومما يدلُّ على أنَّ التَّوفيق لقبول الحق فضلٌ مِن الله ونعمةٌ يمنُّ به على مَن يشاء مِن عباده قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ. فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7-8]، وقوله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69-70].

فمردُّ التَّوفيقِ وتخصيصِهِ بمن حصل له ذلك إلى كمال حِكمته وعلمه سبحانه، ولهذا قال: فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، نسأله تعالى أن يمنَّ علينا بهداه، وأن يوفّقنا لأسباب رضاه؛ إنَّه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.

أملاه :

عبد الرَّحمن بن ناصر البرَّاك

في الثامن عشر من ذي القعدة الحرام 1436هـ