وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فلا بد من مقدمة قبل التعليق على هذه الأقوال؛ فأقول: إن الشرك الأكبر يكون بالقلب اعتقادًا؛ كاعتقاد إله مع الله مطلقًا أو معيَّنًا، ويكون باللسان إقرارًا بما يعتقد الإنسان في قلبه، ويكون بالجوارح بالتوجه بنوع من العبادة لغير الله؛ من صنم أو شجر أو حجر أو إنسان، وقولُ اللسان وفعلُ الجوارح دليلٌ على ما في القلب، واعتقادُ القلب يقتضي قولَ اللسان وفعلَ الجوارح. إذن فالشرك الأكبر يكون ظاهرًا وخفيًّا، فيدخل في ذلك شركُ المنافقين، وشركُ عبَّادِ الأصنام، وعبَّادِ الأحبار والرهبان، الذين اتخذوهم أربابًا من دون الله. إذا تبيَّن هذا فلننظر في المسؤول عنه:
أولًا: قول القائل: “أن يعتقد الساجد في المسجود له معنًى من معاني الربوبيَّة، استقلالًا أو تأثيرًا، فتحَقُّقُ مثل هذا المعنى دليلٌ على غلبة معنى التعبد على الساجد” اهـ.
أقول: هذا كلام مجمل؛ فالسجود للصنم شرك أكبر مطلقًا، وأما السجود لإنسان فلا بد فيه من القيد المذكور؛ لأن السجود للإنسان يكون تحيَّة ويكون عبادة؛ فإن كان تحيَّةً فهو حرام في شريعتنا[1]، وأما السجود مع اعتقاد شيء من خصائص الربوبيَّة فنعم هو شرك أكبر، وكذا لو ذبح لملك تعظيمًا له بإراقة الدم، لا لإكرامه بإطعام اللحم[2].
ثانيًا: قوله: “ليس كلُّ نذر لغير الله شركًا أكبر، ولا يكون شركًا أكبر إلا إذا كان على جهة التعبد والتقرب” اهـ.
أقول: هذا الكلام فيه إجمال في النذر والمنذور له؛ فالنذر لوثن كصنم بوذا معلومٌ حكمُه، والنذر لمن ينتفع بالمنذور، كالنذر بمالٍ صدقةً أو هديةً، فذلك من أنواع الإحسان إلى الغير، وهو بحسب النيَّة، وقد يكون صلة أو صدقة، وقد يكون هديَّة أو مكافأة، فلا بد من التفصيل؛ فإن الإجمال في الكلام سببٌ لضلال العوام.
ثالثًا: قوله: “التصريح بقصد التقرب والتعبد، كأن يقول رجل ما: نذرت كذا وكذا لفلان تقربًا له، وهذا الفعل شرك أكبر” اهـ.
أقول: لفظ (التقرب) لفظ مجمل؛ فالتقرب إلى الله عبادة، والتقرب إلى بعض آلهة المشركين شرك معلوم حكمه، والتقرب إلى إنسان رجاء منفعة من معونة بمال أو جاه، فهذا التقرب هو تودُّدٌ واستمالةٌ لقلبه؛ ليجود بما يُطلب منه من النفع، فهو من الأمور العادية، فلا بد من التفصيل في معنى التقرب والمتقرَّب إليه، كما تقدم في النذر.
رابعًا: قوله: “أن يكون الدعاء بحالة تتضمن غاية الذل والخضوع للمخلوق، كمن يدعو المخلوق وقد قام بقلبه غاية الذل والخضوع الذي لا يكون إلا لله وحده، والذي يمثل حقيقة العبادة وجوهرها، سواء طلب منه ما يقدر عليه أو غيره” اهـ.
أقول: الخضوعُ عملٌ قلبيٌّ لا يتحقق العلم بوجوده إلا بمظاهر تدل عليه؛ فسؤال المخلوق مذلَّةٌ، ولاريب أنه يتفاوت؛ فقد يكون المطلوب منه مقدورًا له، كطلب الإنسان من غيره شيئًا كالمال، وقد يكون غير مقدور له، كمغفرة الذنوب والنجاة من النار، فهذا حرامٌ، ويكون كفرًا إذا اعتقد الداعي أن المدعوَّ له يملك ذلك، وأما الأول وهو سؤال ما يقدر عليه من مال أو نفع، فيختلف حكمه، فقد يكون حرامًا، كسؤال المال تكثُّرًا، وقد يكون مباحًا، كسؤال المضطر ما يدفع ضرورته، وقد يكون مكروهًا، أو خلاف الأولى، كسؤال الدعاء من الغير، ومنه الاسترقاء[3].
هذا كله في سؤال الحيِّ الحاضر، أما سؤال الميت قضاء الحوائج حوائج الدنيا أو الآخرة، فهذا عمل المشركين في قبور الأولياء والأنبياء، فهو شرك أكبر[4].
خامسًا: قوله: “الطلب والمسألة من الأصنام التي عُرفت بعبادتها من دون الله، كمن يدعو صنم بُوذا، أو هُبل أو غيرهما؛ لأن التوجه إلى هذه الأصنام بالدعاء والطلب، قرينة قوية على أن الداعي قد قام في قلبه من التعبد لها ما يوجب الشرك الأكبر” اهـ.
أقول: نعم؛ هو شرك أكبر، وليس من شرطه أن يقوم بقلب الداعي من التعبد لها ما يوجب الشرك الأكبر، بل مجرد دعاء الصنم والسجود له شرك أكبر، حتى ولو فعله مجاملة إلا أن يكون على وجه التخلص من شرِّ عُبَّاده إذا لم يفعل، فيكون ذلك من قبيل الإكراه، وقد قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106].
سادسًا: قوله: “الذَّبح لمخلوق لا يُعرف في العادة الذبح له في عرف العقلاء، كالذبح للشمس، أو لزُحَل، أو لشجرة، أو لحجر؛ فهذه المخلوقات وغيرها لا يُعرف في العادة أن العقلاء يتوجهون إليها بالذبح؛ لإكرامها أو إطعامها، فقصدها بالذبح وإراقة الدماء لها دليل على قصد التعبد والتقرب، واعتقاد معنى غيبيٌّ يتعلَّق بها، فهو شركٌ أكبرُ مخرجٌ من الملة” اهـ.
أقول: هذا كلامٌ حقٌّ؛ فالذَّبح للشَّمس وغيرها مما لم تجر العادة بالذبح له؛ لإكرامه وإطعامه، هو شرك أكبر، كما ذُكِر، وأقول: لو جُعِل هذا المثال في السجود لكان أولى؛ فإنَّ الله ذكَر السجود للشَّمس خبرًا، كما قال تعالى عن الهدهد: يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ [النمل: 24]، وذكره نهيًا في قوله سبحانه: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ [فصلت: 37]، كما تقدم في (أولًا) التنبيهُ على تنوع السجود بأنه يكون عبادة، ويكون تحيَّة، وهكذا يقال: السجودُ للشمس شركٌ أكبر، كما ذُكر ذلك عن الذبح في الكلام المنقول؛ لأنه لا يُسجد للشمس في العادة سجود تحيَّة، وقد سبق ذِكر ذلك.
وما قيل في الذبح والسجود للشمس، يجب أن يقال في الذبح والسجود لقبر الوليِّ، فهو شركٌ أكبرُ مخرجٌ من الملَّة، ولا سيما أنه الواقع من كثير من جهلة المسلمين. والله أعلم، وهو الهادي إلى صراطه المستقيم.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في 6 ذي الحجة 1445هـ
[1] ينظر: تفسير ابن كثير (1/232)، (4/412)، وشرح العقيدة التدمرية (ص376).
[2] ينظر: العزيز شرح الوجيز للرافعي (12/84-85)، والكشف عن مقاصد أبواب ومسائل كتاب التوحيد (ص243).
[3] ينظر: الكشف عن مقاصد أبواب ومسائل كتاب التوحيد (ص90).
[4] ينظر: الكشف عن مقاصد أبواب ومسائل كتاب التوحيد (ص294).