الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فإن المشقَّة هي ما ينافي كمال قدرة المكلَّف؛ بسبب ما يحصل له من ضرر أو أذى بدنيٍّ أو نفسيٍّ، وقد بُنِيَت شريعة الإسلام على اليسر والتيسير، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]، وتفصيل ذلك فيما تضمَّنته الشريعة من الرخص، وجماع ذلك قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]، والاستطاعة التي هي مناط التكليف هي القدرة على المأمور من غير حرج بمشقة غير معتادة، وهي المشقَّة الشديدة، فقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمران بن حصين -رضي الله عنهما- في الصحيح: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب[1]، ومعنى هذا أنه يجب عليه القيام إلا أن يحصل له مع القيام ألـمٌ لا يحصل له مع القعود، وكذا القعود مع الاضطجاع، وليست الاستطاعةُ مطلقَ القدرة، فقد يَقدر الإنسان على القيام مع الكلفة، وقد أطال الفقهاء في تفصيل ذلك[2]، ولكلِّ عملٍ استطاعةٌ تناسبُه، ومشقَّةٌ تعارضها.
والحاصل أن المشقَّة التي قال فيها الأصوليون: “تجلب التيسير”[3]، هي التي يكون معها الضَّرر؛ كزيادة المرض، وتأخُّر البُرء، وأعظم ذلك خوف الهلاك؛ كالعطشِ والجوع الشديدين في الصيام، والاغتسالِ الواجب للصلاة مع شدة البرد، والمشيِ إلى الحج مع المرض، ودوارِ الرأس مع القيام في الصلاة المؤدي للسقوط، ويجمع هذا كلَّه قولُه تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]، وقولُه تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286].
فعُلم ممَّا تقدم أن المشقَّة التي تبيح الرخصة هي التي تنشأ عن ضَرر محقَّق، أو متوقَّعٍ بالظن الغالب، فإذا صحَّ من المكلَّف نيَّةُ الصيام – لولا ما عرض له من المشقة – ثبتت له الرخصة في الفطر[4]. والله أعلم.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في 4 شعبان 1446هـ
[1] أخرجه البخاري (1117).
[2] ينظر: المجموع شرح المهذب (4/390)، والمغني (2/570).
[3] ينظر على سبيل المثال: التحبير شرح التحرير (8/ ٣٨٤٧)، والمنثور في القواعد الفقهية (3/169)، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص76).
[4] ينظر: المجموع شرح المهذب (6/258)، والمغني (4/403).