الحمدُ لله، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمَّد، أمَّا بعد :
فما ذُكر عن هذا الطَّالب مِن إحصاء ما أقرَّ به المشركون مِن شؤون الربوبيَّة ظاهرٌ وصريحٌ في الكتاب العزيز، ومقرَّرٌ عند أئمة أهل السُّنَّة، وأنَّ هذا الإقرار لا يُصيِّر هؤلاء المشركين مؤمنين، بل ولا مسلمين، وأمَّا زعم الطَّالب أنَّ الله سمَّى المشركين بهذا الإقرار "مؤمنين" فغير صحيح؛ فلم يدخلوا في خطاب مَن سمَّاهم الله "مؤمنين"، ولا في خطاب الذين آمنوا، نعم أدخلَ كثيرٌ مِن العلماء المنافقين في بعض الآيات التي فيها خطاب المؤمنين بالاسم الموصول، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:38]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [النساء:144].
وأمَّا الاستدلال على تسمية الله المشركين "مؤمنين" بقوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106]، فهو خطأ ممَّن قاله؛ فإنَّ الله لم يسمِّهم في هذه الآية "مؤمنين"، لا بالاسم المعرفة، ولا بلفظ النَّكرة، وإنَّما وصفهم بإيمان، وهو الإيمان اللغوي، لا بالإيمان المطلق، الذي هو الإيمان الشَّرعي، كما ذكرَ عن صاحب "أضواء البيان"، وكما ذكر الطَّالب عن السَّلف أنَّهم فسَّروا هذا الإيمان بإقرارهم بربوبيَّة الله، وفي الآية نفسها يُبطل الله اعتبار هذا الإيمان بقوله: وَهُم مُّشْرِكُونَ، فجعلَ الشِّرك نعتهم، وشواهدُ هذا في القرآن أكثر مِن أن تحصى، كقوله تعالى: وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ، وقوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وقوله: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ، فسمَّاهم الله في هذه الآيات "مشركين" بلفظ المعرفة (المشركين).
وصحيحٌ ما قال الطَّالب أن شركهم في العبادة، هذا هو الظَّاهر مِن آيات القرآن، وهو المستقر عند أهل العلم، كقوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ [يونس:18]، وقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
وأمَّا إقرارُ المشركين بتوحيد الربوبيَّة: فهذا يُقال في الجملة، والواقع أنَّ منهم مَن يشرك في الربوبيَّة قدرًا مِن الشرك، كمَن يعتقدُ في الكواكب تأثيرًا، كالذين يقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا، قال الله في الحديث القدسي: (فذلكَ كافرٌ بي، مؤمنٌ بالكوكبِ)، ولهذا فمنهم مَن يعبد الكواكب كالصابئة أو بعضهم، ومِن العرب مَن يعبد الشِّعرى، وهم خزاعة.
وقول السَّائل: هل الآية جاءت فيما يظهر لكم لإثبات الإيمان لهم أم لشيء آخر؟ أقول: ما جاء في الآية مِن ذكر الإيمان إنَّما هو لبيان تناقضهم وفساد عقولهم، ولهذا يقول الله في كلِّ آية فيها ذكر إقرارهم: أَفَلاَ تَتَّقُونَ ،أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ، فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، والله أعلم .