الرئيسية/فتاوى/الجمع بين وصف القرآن بأنه رحمة وموت بعض الصالحين عند سماعه
share

الجمع بين وصف القرآن بأنه رحمة وموت بعض الصالحين عند سماعه

السؤال :

ذكرَ اللهُ في كتابه العظيم أنَّ هذا القرآنَ هدىً ورحمةٌ ونورٌ وشفاءٌ لِمَا في الصُّدور، ونقرأُ في تراجمِ بعض العلماء والصَّالحين أنَّهم ماتوا عند سماع آية أو قراءة سورة، وألَّفَ الثَّعلبي المفسّر (ت 427 هـ) كتابًا سماه “قتلى القرآن”، وهم الذين سمعوا القرآن وماتوا بسماعه، فكيفَ نسمِّي هذه الظَّاهرة، أو كيفَ نفسِّرها، وهل لهذه الميتة فضيلةٌ بحيث يحرصُ عليها العبدُ ويتمنَّاها؟

الحمدُ لله؛ أمَّا بعد:

فإنَّ الله قد وصفَ كتابه العزيز بمعانٍ عظيمة، مثل أنَّه هدى ورحمة وشفاءٌ ونورٌ وموعظةٌ، وعمَّ بذلك النَّاس وخصّ المؤمنين، وأثنى على المؤمنين بِمَا يحصلُ لهم عند تلاوة القرآن عليهم، وتذكيرهم بآيات الله مِن زيادة الإيمان والتَّوكل عليه سبحانه، والسُّجود والخشوع والبكاء واقشعرار الجلود، كما قالَ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، وقالَ تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109].

وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ إلى قوله: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، وقوله: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة:15].

وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23]، وقال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83].

وهكذا كانَ الرَّسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابُه، غاية ما يحصلُ لهم مِن الأحوال الظَّاهرة اقشعرارُ الجلودِ وذرفُ الدُّموع والنَّشيجُ وأزيزُ الصَّدر مِن البكاء، قال ابنُ مسعود رضي الله عنه: قرأتُ على النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- سورة النِّساء، فلمَّا بلغتُ قوله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، قالَ: «حَسبُكَ الآن»، فالتفتُ إليه فإذا عيناهُ تذرفان. [1]

وقالَ عبدُ الله بن الشخير رضي الله عنه: أتيتُ النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو يُصلِّي، ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل، [2]  يعني يبكي، [3]  وكانَ عمرُ -رضي الله عنه- يُسمَعُ له نشيجٌ وهو يصلّي،  [4]  والنَّشيجُ صوتٌ في الحلقِ معه توجُّعٌ وبكاءٌ، فلا صراخ ولا غشي ولا موت،  [5]  بل هذه الأحوالُ حدثت في العُبَّاد بعد عهد الصَّحابة، فليست أحوالًا محمودة، ولو كانت كذلك لكانَ الرَّسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابُه أولى بها، فلا يشرعُ استدعاؤها، ولا تمنِّيها؛ لأنَّها عوارض لا كمالات، بل حالة ضعفٍ، فمَن لم تحصلْ لهم أكملُ مِن هؤلاء الذين حصلت لهم.

قالَ الإمامُ ابن تيميَّة رحمه الله: إنَّما يحصلُ هذا لبعض العُبَّاد عندَ سماع القرآن والذكر لقوة الوارد وضعف المحل، [6]  ومعناه أنَّه يرِد على قلوبهم مِن الشُّعور بعظمة الله ووعده ووعيده ما لا تحتمله قلوبهم، فيحصلُ لهم مِن ذلك ما يحصلُ، ولا يكونون بذلك أفضل مِن حال الرَّسول -صلَّى الله عليه- وأصحابه ومَن سارَ على هديهم، لكن هؤلاء لا ريبَ أنَّهم أفضلُ مِن أهل القسوة والغفلة، وأفضلُ منهم المؤمنون القويةُ قلوبُهم، مع اللين والإخبات عند سماع الآيات، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23]، وقال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج:54].

هذا وقد جرى الاطِّلاعُ على كتاب الثَّعلبي الوارد ذكره في السؤال، فإذا هو صغيرُ الحجم قليلُ المحتوى، [7]  قد اشتملَ على جملة مِن القصص عن بعض العبَّاد الذين حصلَ لهم غشيٌ عند سماع بعض الآيات حتى ماتوا، والذي يؤخذُ على هذا الكتاب ثلاثة أمور:

أحدهما: أنَّ ما فيه مِن المحتوى منقولٌ بأسانيد لا تثبتُ بها الأخبارُ، فلا يعوَّلُ على ما ذُكِرَ في هذا الكتاب مِن الحكايات، ولا يفرح بها.

الثاني: عنوانُ الكتاب؛ فإنَّ مضمون العنوان يدلُّ على أنَّ القرآن يقتلُ بعض قارئيه أو سامعيه، والقرآنُ هدى ورحمة للمؤمنين، لم ينزل لموت سامعيه وتاليه.

الثالث: ما نعتَ الثَّعلبيُّ به مَن سمَّاهم “قتلى القرآن” في أول الكتاب، مِن تفضيله لهم على سادات هذه الأمة، مِن خاصة أصحاب الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كأهل بدر، وهذا جهلٌ وضلالٌ وغلوٌ في مَن عظَّمَ أمرهم مِن العباد والصَّالحين، وهم ما بين معلوم ومجهول. [8]

إذا عُرف هذا: فلا يجوزُ أن يدَّعَى تعارضٌ بين ما وصفَ الله به كتابه مِن الرَّحمة الشِّفاء، وبينَ ما جاءَ في كتاب الثعلبي، ولا يجوز -أيضا- أن يسمَّى أحدٌ قتيلَ القرآن؛ لما حصَل له مِن الغشي والصَّعق عند سماع بعض الآيات، ولا يُغترّ بِمَا فعلَ الثَّعلبي مِن الإشادة بهؤلاء، وتأليف كتاب فيهم؛ فإنَّ الثعلبي وإنْ كانَ رجلًا صالحًا فليس هو مِن أهل العلمِ المحققين الذين يميِّزون بين الغثِّ والسَّمين، كما يدلُّ لذلك قولُ شيخ الإسلام فيه: “إنَّه حاطبُ ليلٍ” [9] غفرَ الله له وعفا عنه. والله أعلم.

قالَ ذلك:

عبدُالرَّحمن بن ناصر البرَّاك

حرر في يوم الإثنين 2 شوال 1441هـ

 


الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 -أخرجه البخاري (4583)، ومسلم (800).
2 – الِمرجل: الإناء الذي يغلى فيه الماء وسواء كان من حديد أو غيره. ينظر: النهاية (4/315).
3 -أخرجه الحسين المروزي في زوائد الزهد لابن المبارك (109) ومن طريقه النسائي (1214)، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن مطرف، عن أبيه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل» يعني يبكي.

والحديث أخرجه أحمد (16312)، (16317)، (16326) عن يزيد وعبد الرحمن بن مهدي وعفان كلهم عن حماد به.

وأخرجه بنحوه أبو داود (904) عن عبد الرحمن بن محمد بن سَلَّام: ثنا يزيد بن هارون: أخبرنا حماد -يعني: ابن سلمة- عن ثابت عن مُطَرِّفٍ عن أبيه. وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم؛ غير عبد الرحمن بن محمد بن سلام ثقة ولا بأس به كما في الكاشف (3306)، والتقريب (4000) .وقد توبع كما في صحيح ابن خزيمة (900) عن عبد الصمد العنبري عن حماد به. فقد أخرجه ابن حبان (665) عن حوثرة بن أشرس عن حماد به. وأخرجه الحاكم (971)، من طريق أخرى عن يزيد بن هارون … به. وقال الحاكم: “حديث صحيح على شرط مسلم”، ووافقه الذهبي. وصححه ابن خزيمة وابن حبان وقال الحافظ في الفتح (2/206) “إسناده قوي” وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (839).

4 – أورده البخاري معلقا في “باب إذا بكى الإمام في الصلاة” (قبل 716) عن عبد الله بن شداد، ” سمعت نشيج عمر، وأنا في آخر الصفوف يقرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] “. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (2716)، وسعيد بن منصور (1138)، وابن سعد في الطبقات ط صادر (6/126) وابن أبي شيبة في المصنف ت الشثري (38265)، والبيهقي في الشعب (1895) عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن محمد بن سعد قال: سمعت عبد الله بن شداد قال: ” سمعت نشيج عمر وإني لفي الصف خلفه في صلاة وهو يقرأ سورة يوسف، حتى انتهى إلى {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] “. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ت الشثري (3603) عن إسماعيل بن علية عن إسماعيل بن محمد سعد مثله. والأثر صححه الحافظ في تغليق التعليق (2/300).
5 – ينظر: النهاية لابن الأثير (5/52-53).
6 – ينظر: مجموع الفتاوى (11/75).
7 -يقع الكتاب-دون خاتمة المحقق- في 40 صفحة.
8 – ينظر: (ص53-54).
9 – ينظر: مجموع الفتاوى(29/377)، وتوضيح مقدمة التفسير لشيخنا (ص128) وما بعدها.