الحمدُ لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على محمَّد؛ أما بعد:
فعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، واعلم أنَّك -أيُّها الأخ الكريم- معتكفٌ -إن شاء الله- بنيَّتك هذا العام، فقد قالَ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إنَّ أَقْوَامًا بالمَدِينَةِ خَلْفَنَا، ما سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إلَّا وَهُمْ معنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ» متفق عليه، [1] وقد قالَ بعضُ السَّلف: يبلغُ المؤمن بنيَّته ما لا يبلُغه بعمله، [2] هذا؛ وقد قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وهذا شامل للفرائض والنَّوافل، وهو أن يفعل الإنسان منها ما يستطيع، وقالَ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً» الحديث، متفق عليه، [3] هذا في حقّ مَن لم يكن منه إلَّا الهمُّ، قالَ العلماءُ: إنَّ مَن عزمَ على العملِ وفعلَ منهُ ما يقدرُ عليه فهو بمنزلةِ الفاعل.
وإنّي أرى أنَّك تستطيع -أيَّها الأخ الفاضل- قدرا مِن الاعتكاف، وذلك بأن ترابط في المسجد مِن غير أن تفعلَ شيئًا مِن مظاهر الاعتكاف التي يمكن أن يعتاض عليك فيها، وذلك بالمرابطة بانتظار الصلوات؛ كالمرابطة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وقد قالَ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في انتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة: «فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلكُمُ الرِّباطُ»، [4] والأصلُ أن يكون هذا في المسجد، فإن تعذَّر ففي البيت، وعلى كلّ حال، فالخيرُ ميسَّر في كلِّ وقت وفي كلِّ مكان؛ وفي البيت فرصة لِمَن صدقت عزيمته، وكثيرٌ مِن أبواب الخير ميسَّرة، ولله الحمد؛ كقراءة القرآن، والإكثار مِن الصَّلاة والذكر، وهذا مقصود الاعتكاف، فهو متيسِّر في البيت.
وبالمناسبة؛ نسوقُ إليكَ ما قاله شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة -رحمه الله-، قال: "ولَابُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ أَوْقَاتٍ يَنْفَرِدُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِ وَذِكْرِهِ وَصَلَاتِهِ وَتَفَكُّرِهِ وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَإِصْلَاحِ قَلْبِهِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ؛ فَهَذِهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى انْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ؛ إمَّا فِي بَيْتِهِ، كَمَا قَالَ طاووس: (نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ، يَكُفُّ فِيهَا بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ)، [5] وَإِمَّا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ". [6]
نسألُ الله أن يعينكَ، وأن يبلغكَ ما ترجوه مِن فضله تعالى وكرمه، كما نسأله تعالى أن يرفعَ عنَّا وعن المسلمين هذه الجائحة، إنه سميع مجيب.
قال ذلك:
عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
إملاء في عشرين رمضان 1442هـ
الحاشية السفلية
↑1 | – أخرجه البخاري (2839) -واللفظ له- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه مسلم (1911) بنحوه عن جابر رضي الله عنه. |
---|---|
↑2 | – قال يحيى بن أبي كثير: "تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل" أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/70). |
↑3 | – أخرجه البخاري (6491) – واللفظ له-، ومسلم (131) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. |
↑4 | – أخرجه مسلم (251) عن أبي هريرة رضي الله عنه. |
↑5 | – أخرجه ابن أبي شيبة -ط الرشد- (34595)، وأبو داود في الزهد (218)، والخرائطي في مكارم الأخلاق-ط الرشد- (317) عن أبي الدرداء ولم نجده مسندا عن طاوس. |
↑6 | – مجموع الفتاوى (10/426). |