الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد، أما بعد:
فقد تقدم في جواب السؤال السابق أن نصوص النهي عن التصوير الدالة على تحريم التصوير أنَّها عامَّةٌ مطلقةٌ لم تُقيَّد بشيء من وسائل التصوير من يدٍ أو آلةٍ أو بحجمٍ ومساحةٍ للصورة، ولم يُقيَّد المصوَّر بكِبَر أو صِغَر، أو جنس من الحيوان، فعُلم بذلك أن ما ذُكر في هذا السؤال من نوعَي التصوير الخفيِّ لا يخرج عن العموم، غاية الأمر أنه لا تظهر فيه حقيقة التصوير ابتداءً، بل بعد محاولة التحقق من الرسم. إذن فهو تصوير باعتبار ما يؤول إليه، ومن قواعد الشرع والعقل أن الأمور بمآلاتها ومقاصدها، وعليه: فيكون تحريم هذا التصوير بنوعيه من باب تحريم الوسائل وسدِّ الذرائع المفضية إلى ما حرَّم الله، والواجب على المسلم اجتناب ما حرَّم الله، واجتناب الذرائع المفضية إليه، ومن قواعد الشريعة التي بنى عليها العلماء كثيرًا من الأحكام قاعدةُ سدِّ الذرائع. هذا، والله أعلم.
المسألة الثالثة: الرسم على ما يَسرع زواله.
وصورتها: انتشرت في الآونة الأخيرة مقاهٍ متخصصة برسم صورة الوجه، أو الحيوان على القهوة، أو الكعك. وأدوات ترفيهية جديدة للرسم، كالرسم بالضوء على الأسطح التي تحفظه لثوانٍ معدودة. فما الحكم فيما يتعلق بما يلي:
- كونها صورة سريعة التلَف والزوال.
- كون بعض صورها على مأكولات، فهل وصف الأكل مؤثر في تجويز صناعتها وشرائها؟
الجواب: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد، أما بعد:
فقد تقدم أن أدلة تحريم التصوير واقتناء الصور عامَّةٌ مطلقةٌ، لا يستثنى منها شيء إلا بدليل، فيدخل فيها جميع أنواع التصوير والصور، ومن ذلك الصور التي لا تدوم، بل تزول تلقائيًا، أو من شأنها أن تُتلَف كالرسم على مأكولٍ؛ فإنها مهيَّأةٌ لإتلافها بأكلها، فلا تخرج بذلك عن حكم التحريم، وقياس هذا لو قال قائل: إني أريد أن أصور ما يحرُم تصويره؛ لأختبر مقدرتي، ثم أتلف الصورة بتمزيقها أو إحراقها، فعزمه على إتلافها بعد التصوير لا يبيح له ما نُهي عنه؛ فإن المفسدةَ التي من أجلها جاء النهيُ موجودةٌ، وهي المضاهاة بخلق الله، لا يرفعها العزم على إتلاف الصورة بعد الفراغ من التصوير، فعُلم أن المسؤول عنه من الصور والتصوير حرامٌ، جنَّبنا الله محارمه، وبصَّرنا بدينه، وهدانا صراطه المستقيم. والله أعلم.
المسألة الرابعة: رسم "البورتريه" .
وصورتها: البورتريه نوع شائع من أنواع الرسم، يُركِّز على تصوير هيئة الوجه وملامحه حتى تُحاكي صورةَ الوجه الحقيقي، فهو لا يصوِّر هيئة الإنسان الكاملة، وإنما يقتصر على الوجه وأعلى الصدر في الأصل، فما حكمها إن كانت مقيدة بهذا الوصف؟
الجواب: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد، أما بعد:
فإن الاقتصار في التصوير على الوجه والرأس وأعلى الصدر لا يرفع حكم التحريم؛ فإن المقصود من الصورة هو ما ذُكر؛ لأنه الذي يحصل به التعريف والتعيين، ولهذا كان هذا النوع من التصوير هو المتَّبع في الوثائق والمستندات الرسمية، ويدل لذلك من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: الصورة هي الرأس، [1] وتقدمت الإشارة إلى هذا الحديث في جواب المسألة الأولى. والله أعلم.
المسألة الخامسة: رسم هيئة الوجه على ما ليس بروح.
وصورتها: أن ترسم العين والأنف والفم على ما لا روح فيه، كتفاحة تضحك، أو سيارة تتكلم، فهل خلوها عن معنى الحياة يجيز رسمها واستعمالها وإن شابهت أوصاف الحي؟
الجواب: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد، أما بعد:
فإن مجموع العين والأنف والفم من الإنسان يمثِّل رسم الوجه، وهذه حقيقة التصوير المحرَّم؛ فإن الصورة هي الرأس، وحقيقتها هي الوجه، فرسم الوجه إذن على جسم لا روح فيه، كرسمه على خشبة أو مطعوم ـ كتفاحة ونحوها ـ لا يرفع مفسدة التصوير، وهي المضاهاة بخلق الله، وممَّا يؤكد هذا أنه يمكن أن يُعرف صاحب الوجه المرسوم إذا كان الرسَّام ماهرًا، وعليه فهذا النوع من الرسم داخلٌ في عموم الأدلة، فهو حرام، مع ما فيه من الخداع من تشبيه الجماد بالحيوان. والله أعلم.
المسألة السادسة: رسم هيئة الحيوان على الوجه .
وصورتها: أن ترسم بألوان مخصَّصة ملامح النمر أو الغزال مثلًا على وجه الإنسان دون رسم عينٍ أو فمٍ أو غيره، إنما الملامح العامة التي تجعله يشبه ذلك الحيوان في ملامحه.
الجواب: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد، أما بعد:
فرسم ملامح الحيوان على وجه الإنسان ليس من التصوير الذي ورد في النصوص النهيُ عنه والوعيد عليه؛ لأنه لا رأس ولا شيء من أعضاء الوجه فيه، والصُّورةُ الرأسُ، ومنه الوجه، وأعضاء الوجه العين والأنف والفم، وليس شيء من ذلك موجودًا في الرسم المذكور، لكن فيه تشويهٌ وتقبيحٌ لصورة الإنسان؛ ففيه من معنى المسخ والتغيير لخلق الله، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام، أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، [2] فكيف تغيَّر صورة من قال الله فيه: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:64]، وقال فيه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] إلى صورة قبيحة مرذولة؟!
إن في هذا النوع من الرسم طمسًا لذلك الحُسن الذي أكرم الله به الإنسان، فالذي يظهر أنه يَحرم؛ لما فيه من تغيير خلق الله، فالواجب على العبد تقوى الله، والوقوف عند حدوده، وتغيير خلق الله ممَّا أقسم الشيطان على الأمر به، كما قال الله عنه: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ[النساء:119].
ثم إن هذا التغيير ليس طلبًا للحسن، بل هو محضُ العبث واللعب للتسلية بالمظاهر الغريبة التي تُفزع الأطفال أو تضحك النساء والرجال، ومن يمارس هذا العمل يسمَّى "مُهرِّجًا"، حيث تُغيَّر ملامح جسمه ووجهه، إذن فهو عمل لا يليق بذوي العقول والسمت الحسن فعلُه ولا التفرج عليه، فقد اجتمع فيه مساوئ عديدة؛ شرعيَّةٌ وعقليَّةٌ، والحاصل أن هذا النوع من الرسم حرام؛ لما فيه من المفاسد والمخالفات، كما أنه يحرم اتخاذ هذا العمل حرفة للتكسب به. والله أعلم.
المسألة السابعة: الرسم الهزْلي (الكاريكاتير).
وصورتها: أن ترسم الصورة بهيئة هزْلية مستقبحة غالبًا، بحيث يبالَغ في تغيير الملامح حتى تبدو في تلك الهيئة؛ بهدف نقد بعض الظواهر الاجتماعية أو السياسية.
فما الحكم فيما يتعلق بكونها: 1- ممتهنة بهذه الهيئة. 2- أداة إعلامية مؤثرة.
الجواب: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد، أما بعد:
فإن الرَّسمَ الهزْليَ المسمَّى "الكاريكاتير" يجمع بين مفسدتين: التصوير والتغيير لخلق الله، ثم إنَّ استخدامَه أداةً إعلاميَّةً ترويجٌ له، وقد يُستخدم عدوانًا على من لا يستحق أن يُفعل به ذلك، فالحكم إذنْ هو التحريم لهذا النوع من الرسم، وقد يكون بعضُه أشدَّ تحريمًا من بعض بحسب ما يشتمل عليه من المفسدة. والله أعلم.
المسألة الثامنة: الاحتفاظ برسومات ذوات الأرواح على الممتهنات .
وصورتها: لو أن شخصًا رسم صورة آدميٍّ بهيئته الكاملة، ثم تاب وأقلع عن الرسم، فهل يلزمه إتلاف ما صنع إن كانت الصورة على ما يمتهن كمفرش، وإناء، ونحوهما.
فما الحكم فيما يتعلق بما يأتي:
- إيجاب الإتلاف على الصانع، ولو كانت الصورة على ممتهَن.
- حفظ المرسومات داخل الكُرَّاس، أو جهاز الحاسب الآلي، ووصفها بالامتهان من عدمه.
الجواب: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد، أما بعد:
فإذا تاب الرسَّام من تصوير ذوات الأرواح على أدوات ممتهنة، فلا يجب عليه إتلاف الصور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد عائشة رضي الله عنها أن تجعل من القرام المصوَّر وسادتين منتبذتين توطآن، [3] أي: ممتهنتين، وعندي أن الأفضل إتلاف ما صوَّره ذلك الرَّسام، فلعل ذلك من تمام توبته، أما الصور التي في الكراسات وفي الحاسب الآلي فالأظهر وجوب إزالتها؛ لأن الكُرَّاس والحاسب الآلي ليس من المواضع الممتهنة. والله أعلم.
المسألة التاسعة: الصورة في حق الأطفال .
فما الحكم فيما يتعلق بما يأتي:
- استعمالها؛ كما في اللعب والقِصص والألبسة هل تُعدُّ ممتهنة والرخصة في حقهم عامة؟
- صناعتها؛ كما في التلوين والرسم وتركيب لُعَب الذكاء على هيئة الحيوانات ونحو ذلك.
الجواب: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد، أما بعد:
فإن صناعة لعب الأطفال على شكل صور حيوانات، الأصل أنه جائز؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنه كان لها لُعب على شكل بنات، [4] وكانت تصنع من القطن والخِرَق، وليس فيها شيء من الإبداع في التصوير، ولهذا أقول: إنه إذا كانت اللعب من هذا النوع فهي جائزة، أما إذا كانت مما لعبت فيه يد الفن كالدُّمى والعرائس التي فيها مبالغة في مضاهاة خلق الله حتى يظن الجاهل أنها حقائق، وأنها أجسام حيَّة، فهذا النوع لا يحلُّ؛ لأنه لا يشبه ما كان لعائشة، أما الرسوم التي في ثياب الأطفال فليست ممتهنة؛ لأنها توضع زينةً للثياب وتفريحًا للأطفال، لما فيها من الألوان والأشكال، وفيما أباح الله غنية عمَّا حرَّم، سواء أكان من الحرام البين أم من المشتبهات، هذا وذهب بعض العلماء إلى أن حديث عائشة في اللعب منسوخ بأحاديث تحريم التصوير والمصوَّرات. [5] والله أعلم.
قاله:
عبد الرَّحمن بن ناصر البرَّاك
إملاء في 21 شعبان 1443هـ